فصل: قال الألوسي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال أبو السعود:

{إِنّ الذين يخْشوْن ربّهُم بالغيب} أي يخافون عذابهُ غائبا عنهُم أو غائبين عنْهُ أو عن أعينِ النّاسِ أو بما خفِي منهُم وهو قلوبُهُم {لهُم مّغْفِرةٌ} عظيمةٌ لذنوبِهِم {وأجْرٌ كبِيرٌ} لا يُقادرُ قدرُهُ.
{وأسِرُّواْ قولكُمْ أوِ اجهروا بِهِ} بيانٌ لتساوِي السرِّ والجهرِ بالنسبةِ إلى علمِهِ تعالى كما في قوله: {سواء مّنْكُمْ مّنْ أسرّ القول ومنْ جهر بِهِ} قال ابنُ عبّاسٍ رضي الله عنهُما نزلتْ في المشركين كانُوا ينالُون من النبيِّ عليهِ الصّلاةُ والسّلامُ فيُوحى إليهِ عليهِ الصلاةُ والسّلامُ فقال بعضُهُم لبعضٍ أسرُّوا قولكُم كيلا يسمع ربُّ محمدٍ فقيل لهُم أسِرُّوا ذلك أو اجهروا بهِ فإنّ الله يعلمهُ، وتقديمُ السرِّ على الجهرِ للإيذانِ بافتضاحِهِم ووقوعِ ما يحذرونهُ من أولِ الأمرِ والمبالغةِ في بيانِ شمولِ علمِهِ المحيطِ لجميعِ المعلوماتِ كأنّ علمهُ تعالى بما يُسرُّونهُ أقدرُ منهُ بما يجهرون بهِ مع كونِهِما في الحقيقةِ على السويةِ فإنّ علمهُ تعالى بمعلوماتِهِ ليس بطريقِ حصولِ صورِها بل وجودُ كلِّ شيءٍ في نفسِهِ علمٌ بالنسبةِ إليهِ تعالى أو لأنّ مرتبة السرِّ متقدمةٌ على مرتبةِ الجهرِ إذْ ما من شيءٍ يُجهرُ بهِ إلا وهُو أو مباديهِ مضمرٌ في القلبِ يتعلقُ بهِ الأسرارُ غالبا فتعلقُ علمِهِ تعالى بحالتِهِ الأُولى متقدمٌ على تعلقِهِ بحالتِهِ الثانيةِ. وقوله تعالى: {إِنّهُ علِيمٌ بِذاتِ الصدور} تعليلٌ لما قبلهُ، وتقريرٌ لهُ. وفي صيغةِ الفعيلِ وتحليةِ الصدورِ بلامِ الاستغراقِ ووصفِ الضمائرِ بصاحبِيتِها من الجزالةِ ما لا غاية وارءهُ كأنّهُ قيل إنه مبالغٌ في الإحاطةِ بمضمراتِ جميعِ الناسِ وأسرارِهِم الخفيةِ المستكنةِ في صدورِهِمْ بحيثُ لا تكادُ تفارقُها أصلا فكيف يخْفى عليهِ ما تُسرُّونهُ وتجهرون بهِ، ويجوزُ أنْ يُراد بذاتِ الصُّدورِ القلوبُ التي في الصدرِ، والمعنى أنه عليمٌ بالقلوبِ وأحوالِها فلا يخْفى عليهِ سرٌّ من أسرارِها.
وقوله تعالى: {ألا يعْلمُ منْ خلق} إنكارٌ ونفيٌ لعدمِ إحاطةِ علمِهِ تعالى بالمُضمرِ والمُظهرِ، أي ألا يعلمُ السرّ والجهر من أوجد بموجبِ حكمتِهِ جميع الأشياءِ التي هُما من جُملتِها. وقوله تعالى: {وهُو اللطيف الخبير} حالٌ من فاعلِ يعلمُ مؤكدةٌ للإنكارِ والنّفيِ، أي ألا يعلمُ ذلك والحالُ أنّه المتوصلُ علمُهُ إلى ما ظهر من خلقِهِ وما بطن، ويجوزُ أنْ يكون منْ خلق منصوبا، والمعْنى ألا يعلمُ الله منْ خلقهُ والحالُ أنّهُ بهذِهِ المثابةِ من شمولِ العلمِ، ولا مساغ لإخلاءِ العلم عن المفعولِ بإجرائِهِ مجْرى يُعْطِي ويمنعُ على معْنى ألا يكونُ عالِما منْ خلق لأنّ الخلق لا يتأتّى بدونِ العلمِ لخلوِّ الحالِ حينئذٍ من الإفادةِ لأنّ نظم الكلامِ حينئدٍ ألا يكونُ عالما وهو مبالغٌ في العلمِ.
{هُو الذي جعل لكُمُ الأرض ذلُولا}
لينة يسهلُ عليكُم السلوكُ فيها، وتقديمُ لكُم على مفعُولي الجعلِ مع أنّ حقّهُ التأخرُ عنهُما للاهتمامِ بِما قُدم والتشويقِ إلى ما أُخر فإنّ ما حقّه التقديمُ إذا أُخر لاسيما عند كونِ المقدمِ ممّا يدلُّ على كونِ المؤخرِ من منافعِ المخاطبين تبقى النفسُ مترقبة لورودِهِ فيتمكنُ لديها عند ذكرِهِ فضلُ تمكنٍ. والفاءُ في قوله تعالى: {فامشوا في مناكِبِها} لترتيبِ الأمرِ على الجعلِ المذكورِ أي فاسلكُوا في جوانِبِها أو جِبالِها، وهو مثلٌ لفرطِ التذليلِ فإن منكب البعيرِ أرقُّ أعضائِهِ وأنباها عن أنْ يطأهُ الراكبُ بقدمِهِ فإذا جُعل الأرضُ في الذُّلِّ بحيثُ يتأتّى المشيُ في مناكبِها لم يبق منها شيءٌ لم يتذللْ. {وكُلُواْ مِن رّزْقِهِ} والتمسُوا من نعمِ الله تعالى: {وإِليْهِ النشور} أي المرجعُ بعد البعثِ لا إلى غيرِه فبالِغُوا في شكرِ نعمِهِ وآلائِهِ.
{ءأمِنْتُمْ مّن في السماء} أي الملائكة الموكلين بتدبيرِ هذا العالمِ، أو الله سبحانه على تأويلِ من في السماءِ أمرُهُ وقضاؤهُ، أو على زعمِ العربِ حيثُ كانُوا يزعمون أنّه تعالى في السماءِ أي أأمنتُم منْ تزعمُون أنّهُ في السماءِ وهُو متعالٍ عن المكانِ. {أن يخْسِف بِكُمُ الأرض} بعد ما جعلها لكُم ذلولا تمشون في مناكبِها وتأكلون من رزقِهِ لكفرانِكُم تلك النعمة أي يقلبُها ملتبسة بكُم فيغيبكم فيها كما فعل بقارون وهو بدلُ اشتمالٍ مِنْ منْ، وقيل هو على حذفِ الجارِّ أيْ مِنْ أنْ يخسف {فإِذا هي تمُورُ} أي تضطربُ ذهابا ومجيئا على خلافِ ما كانتْ عليهِ من الذُّلِّ والاطمئنانِ {أمْ أمِنتُمْ مّن في السماء} إضرابٌ عن التهديدِ بما ذُكِر، وانتقال إلى التهديدِ بوجهٍ آخر، أيْ بلْ أأمنتُم منْ في السّماءِ {أن يُرْسِل عليْكُمْ حاصبا} أي حجارة من السماءِ كما أرسلها على قومِ لوطٍ وأصحابِ الفيلِ، وقيل ريحا فيها حجارةٌ وحصباءُ كأنّها تقلعُ الحصباء لشدّتِها وقوتِها وقيل هي سحابٌ فيها حجارةٌ {فستعْلمُون} عن قريبٍ ألبتة {كيْف نذِيرِ} أي إنذارِي عند مُشاهدتِكُم للمنذرِ بهِ ولكنْ لا ينفعكُم العلمُ حينئذٍ. وقرئ {فسيعلمُون} بالياءِ {ولقدْ كذّب الذين مِن قبْلِهِمْ} أي من قبلِ كفارِ مكة من كفارِ الأممِ السّالفةِ كقومِ نوحٍ وعادٍ وأضرابِهِم. والالتفاتُ إلى الغيبةِ لإبرازِ الإعراضِ عنهُم {فكيْف كان نكِيرِ} أي إنكارِي عليهِم بإنزالِ العذابِ أي كان على غايةِ الهولِ والفظاعةِ وهذا هو موردُ التأكيدِ القسمِي لا تكذيبُهُم فقطْ، وفيهِ من المبالغةِ في تسليةِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم وتشديدِ التهديدِ لقومِهِ ما لا يخْفى. اهـ.

.قال الألوسي:

{إِنّ الذين يخْشوْن ربّهُم بالغيب} أي يخافون عذابه غائبا عنهم أو غائبين عنه أو عن أعين الناس غير مرائين أو بما خفي منهم وهو قلوبهم {لهُم مّغْفِرةٌ} عظيمة لذنوبهم {وأجْرٌ كبِيرٌ} لا يقادر قدره وتقديم المغفرة على الأجر لأن درء المضار أهم من جلب المنافع والجملة المذكورة قيل استئناف بياني وقوله تعالى: {وأسِرُّواْ قولكُمْ أوِ اجهروا بِهِ} خطاب عام للمكلفين كما في قوله تعالى أولا {ليبلوكم} [الملك: 2] عطف على مقدر قال في (الكشف) أصل الكلام وللذين كفروا منكم أيها المكلفون المبتلون وللذين يخشون منكم فقطع هذا الثاني جوابا عن السؤال الذي يقطر من بيان حال الكافرين مع أن ذكرهم بالعرض وهو ماذا حال من أحسن عملا ومن خرج ممحصا عند الابتلاء فأجيب بقوله تعالى: {إِنّ الذين يخْشوْن} [الملك: 12] إلخ فأثبت لهم كمال العلم {إنما يخشى الله من عباده العلماء} [فاطر: 28] وكمال التقوى لقوله تعالى بالغيب وفي هذا القطع ترشيح للمعنى المرموز إليه في قوله تعالى: {أيكم أحسن عملا} [الملك: 2] أي ليبلوكم أيكم المتقي تخصيصا لهم بأنهم المقصودون ولو عطف لدل على التساوي ثم قيل فاتقوه في السر والعلن ودوموا أنتم أيها الخاشعون على خشيتكم وأنيبوا إلى الخشية والتقوى أيها المغترون واعتقدوا استواء إسراركم وجهركم في علم ربكم فكونوا على حذر واخشوه حق الخشية فقوله تعالى ذلك عطف على هذا المضمر وجوز أن يجعل قوله تعالى: {إِنّ الذين} إلخ استطرادا عقيب ذكر الكفار وجزائهم وقوله سبحانه وأسروا أو اجهروا على سبيل الالتفات إلى {أصحاب السعير} [الملك: 11] لبعد العهد وزيادة الاختصاص عطفا على قوله تعالى: {وللذين كفروا} [الملك: 6] كأنه قيل وللكافرين بربهم عذاب جهنم ثم قيل من صفتها كيت وكيت وإسراركم بالقول وجهركم به أيها الكافرون سيان فلا تفوتوننا جهرتم بالكفر والبغضاء أو أبطنتموهما فهو من تتمة الوعيد ثم قال والأول املأ بالقبول انتهى ويظهر لي بعد الأول ويؤيد الثاني ما روي عن ابن عباس أنه قال نزلت وأسروا إلخ في المشركين كانوا ينالون من النبي صلى الله عليه وسلم فيوحى إليه عليه الصلاة والسلام فقال بعضهم لبعض أسروا قولكم كيلا يسمع رب محمد فقيل لهم أسروا ذلك أو اجهروا به فإن الله تعالى يعلمه وتقديم السر على الجهر للإيذان بافتضاحهم ووقوع ما يحذرونه من أول الأمر والمبالغة في شمول علمه عز وجل المحيط بجميع المعلومات كأن علمه تعالى بما يسرونه أقدم منه بما يجهرون به مع كونهما في الحقيقة على السوية أو لأن مرتبة السر متقدمة على مرتبة الجهر إذ ما من شيء يجهر به إلا وهو أو مباديه مضمر في القلب غالبا فتعلق علمه تعالى بحالته الأولى متقدم على تعلقه بحالته الثانية وقوله تعالى: {إِنّهُ علِيمٌ بِذاتِ الصدور} تعليل لما قبله وتقرير له وفي صيغة الفعيل وتحلية الصدور بلام الاستغراق ووصف الضمائر بصاحبتها من الجزالة ما لا يخفى كأنه قيل أنه عز وجل مبالغ في الإحاطة بمضمرات جميع الناس وأسرارهم الخفية المستكنة في صدورهم بحيث لا تكاد تفارقها أصلا فكيف لا يعلم ما تسرونه وتجهرون به ويجوز أن يراد بذات الصدور القلوب التي في الصدور والمعنى أنه تعالى عليم بالقلوب وأحوالها فلا يخفى عليه سر من أسرارها وقوله تعالى: {ألا يعْلمُ منْ خلق} إنكار ونفي لعدم إحاطة علمه جل شأنه ومن فاعل يعلم أي ألا يعلم السر والجهر من أوجد بموجب حكمته جميع الأشياء التي هما من جملتها وقوله تعالى: {وهُو اللطيف الخبير} حال من فاعل يعلم مؤكدة للإنكار والنفي أي ألا يعلم ذلك والحال أنه تعالى المتوصل علمه إلى ما ظهر من خلقه وما بطن وقيل حال من فاعل خلق والأول أظهر وقدر مفعول يعلم بما سمعت ولم يجعل الفعل من باب يعطي ويمنع لمكان هذه الحال على ما قيل إذ لو قلت ألا يكون عالما من هو خالق وهو اللطيف الخبير لم يكن معنى صحيحا لاعتماد ألا يعلم على الحال والشيء لا يوقت بنفسه فلا يقال ألا يعلم وهو عالم ولكن ألا يعلم كذا وهو عالم كل شيء وأورد عليه أن اللطيف هو العالم بالخفيات فيكون المعنى ألا يكون عالما وهو عالم بالخفيات وهو مستقيم وأجيب بأن لا يعلم من ذلك الباب وهو على ما قرره السكاكي مستغرق في المقام الخطابي واللطيف الخبير من يوصل علمه إلى ما ظهر من خلقه وما بطن فهما سواء في الاستغراق والإطلاق وتعقب بأن الاستغراق غير لازم كما ذكره الزمخشري في قوله تعالى: {ولما ورد ماء مدين} [القصص: 23] الآية ولو سلم فالوجه مختلف لأن العموم المستفاد من الثاني ليس العموم المستفاد من الأول فإن اللطف للعلم بالخفايا خاصة ويلزم العلم بالجلايا من طريق الدلالة ثم إن الغزالي اعتبر في مفهوم اللطيف مع العلم بخفايا الأمور سلوك سبيل الرفق في إيصال ما يصلحها فلا يتكرر مع الخبير بناء على أنه العالم بالخفايا أيضا والوجه في الحاجة إلى التقدير كما قال بعض الأئمة أن قوله تعالى ألا يعلم تذييل بعد التعليل بقوله سبحانه: {إنه عليم بذات الصدور} [الملك: 13] فربط المعنى أن يقال ألا يعلم هذا الخفي أعني قولكم المسر به أو ألا يعلم سركم وجهركم من يعلم دقائق الخفايا وجلائلها جملها وتفاصيلها ولو قيل ألا يكون عالما بليغ العلم من هو كذا لم يرتبط ولكان فيه عي وقصور وجوز كون من مفعول خلق واستظهره أبو حيان أي ألا يعلم مخلوقه وهذه حاله ورجح الأول بأن فيه إقامة الظاهر مقام الضمير الراجع إلى الرب وهو أدل على المحذوف أعني السر والجهر وتعميم المخلوق المتناول لهما تناولا أوليا ولهذا قدروا من خلق الأشياء دلالة على أن حذف المفعول للتعميم.
{هُو الذي جعل لكُمُ الأرض ذلُولا} غير صعبة يسهل جدا عليكم السلوك فيها فهو فعول للمبالغة في الذل من ذل بالضم ويكسر ضد الصعوبة ويستعمل المضموم فيما يقابل العز كما يقتضيه كلام القاموس وقال ابن عطية الذلول فعول بمعنى مفعول أي مذلولة كركوب وحلوب انتهى وتعقب بأن فعله قاصر وإنما يعدى بالهمزة أو التضعيف فلا يكون بمعنى المفعول واستظهر أن مذلولة خطأ وقال بعضهم يقولون للدابة إذا كانت منقادة غير صعبة ذلول من الذل بالكسر وهو سهولة الانقياد في الكلام استعارة وقيل تشبيه بليغ وتقديم لكم على مفعولي الجعل مع أن حقه التأخر عنهما للاهتمام بما قدم والتشويق إلى ما أخر فإن ما حقه التقديم إذا أخر لاسيما عند كون المقدم مما يدل على كون المؤخر من منافع المخاطبين تبقى النفس مترقبة لوروده فيتمكن لديها عند ذكره فضل تمكن والفاء في قوله تعالى: {فامشوا في مناكِبِها} لترتيب الأمر على الجعل المذكور وزعم بعضهم أنها فصيحة والمراد بمناكبها على ما روي عن ابن عباس وقتادة وغيرهما جبالها وقال الحسن طرقها وفجاجها وأصل المنكب مجتمع ما بين العضد والكتف واستعماله فيما ذكر على سبيل الاستعارة التصريحية التحقيقية وهي قرينة المكنية في الأرض حيث شبهت بالبعير كما ذكره الخفاجي ثم قال فإن قلت كيف تكون مكنية وقد ذكر طرفها الآخر في قوله تعالى: {ذلُولا} قلت هو بتقدير أرضا ذلولا فالمذكور جنس الأرض المطلق والمشبه هو الفرد الخارجي وهو غير مذكور فيجوز كون ذلولا استعارة والمكنية حينئذٍ هي مدلول الضمير لا المصرح بها في (النظم الكريم) والمانع من الاستعارة ذكر المشبه بعينه لا بما يصدق عليه فتأمل ولا تغفل وفي (الكشاف) المشي في مناكبها مثل لفرط التذليل ومجاوزته الغاية لأن المنكبين وملتقاهما من الغارب أرق شيء من البعير وأنباه عن أن يطأه الراكب بقدمه ويعتمد عليه لم يترك بقية من التذليل والمراد أنه ليس هنا أمر بالمشي حقيقة وإنما القصد به إلى جعله مثلا لفرط التذليل سواء كانت المناكب مفسرة بالجبال أو غيرها وسواء كان ما قبل استعارة أو تشبيها {وكُلُواْ مِن رّزْقِهِ} انتفعوا بما أنعم جل شأنه وكثيرا ما يعبر عن وجوه الانتفاع بالأكل لأنه الأهم الأعم وفي أنوار التنزيل أي التمسوا من نعم الله سبحانه وتعالى على أن الأكل مجاز عن الالتماس من قبيل ذكر الملزوم وإرادة اللازم قيل وهو المناسب لقوله تعالى امشوا وجوز بعض إبقاءه على ظاهره على أن ذلك من قبيل الاكتفاء وليس بذاك واستدل بالآية على ندب التسبب والكسب وفي الحديث «أن الله تعالى يحب العبد المؤمن المحترف» وهذا لا ينافي التوكل بل أخرج الحكيم الترمذي عن معاوية بن قرة قال مر عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه بقوم فقال: من أنتم فقالوا: المتوكلون قال: أنتم المتأكلون إنما المتوكل رجل ألقى حبه في بطن الأرض وتوكل على ربه عز وجل وتمام الكلام في هذا الفصل في محله والمشهور أن الأمر في الموضعين للإباحة وجوز كونه لمطلق الطلب لأن من المشي وما عطف عليه ما هو واجب كما لا يخفى {وإِليْهِ النشور} أي المرجع بعد البعث لا إلى غيره عز وجل فبالغوا في شكر نعمه التي منها تذليل الأرض وتمكينكم منها وبث الرزق فيها ومما يقضي منه العجب جواز عود ضمير رزقه على الأرض باعتبار أنها مبدأ أو عنصر من العناصر أو ذلول وهو يستوي فيه المذكر والمؤنث والإضافة لأدنى ملابسة أي من الرزق الذي خلق عليها وكذا ضمير {إليه} أي وإلى الأرض نشوركم ورجوعكم فتخرجون من بيوتكم وقصوركم إلى قبوركم وجملة {إليه النشور} قيل عطف على الصلة بعد ملاحظة ما ترتب عليها وقيل حال مقدرة من ضمير المخاطبين المرفوع فتدبر.
{ءامنْتُمْ مّن في السماء} وهو الله عز وجل كما ذهب إليه غير واحد فقيل على تأويل من في السماء أمره سبحانه وقضاؤه يعني أنه من التجوز في الإسناد أو أن فيه مضافا مقدرا وأصله من في السماء أمره فلما حذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه ارتفع واستتر وقيل على تقدير خالق من في السماء وقيل في بمعنى على ويراد العلو بالقهر والقدرة وقيل هو مبني على زعم العرب حيث كانوا يزعمون أنه سبحانه في السماء فكأنه قيل أأمنتم من تزعمون أنه في السماء وهو متعال عن المكان وهذا في غاية السخافة فكيف يناسب بناء الكلام في مثل هذا المقام على زعم بعض زعم الجهلة كما لا يخفى على المنصف أو هو غيره عز شأنه وإليه ذهب بعضهم فقيل أريد بالموصول الملائكة عليهم السلام الموكلون بتدبير هذا العالم وقيل جبريل عليه السلام وهو الملك الموكل بالخسف وأئمة السلف لم يذهبوا إلى غيره تعالى والآية عندهم من المتشابه وقد قال صلى الله عليه وسلم: «آمنوا بمتشابهه» ولم يقل أولوه فهم مؤمنون بأنه عز وجل في السماء على المعنى الذي أراده سبحانه مع كمال التنزيه وحديث الجارية من أقوى الأدلة لهم في هذا الباب وتأويله بما أول به الخلف خروج عن دائرة الإنصاف عند أولي الألباب وفي (فتح الباري) للحافظ ابن حجر أسند اللالكائي عن محمد بن الحسن الشيباني قال: اتفاق الفقهاء كلهم من المشرق إلى المغرب على الإيمان بالقرآن والأحاديث التي جاءت بها الثقات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في صفة الرب من غير تشبيه ولا تفسير وأسند البيهقي بسند صحيح عن أحمد بن أبي الحواري عن سفيان بن عيينة كل ما وصف الله تعالى به نفسه في كتابه فتفسيره تلاوته والسكوت عنه وهذه طريقة الشافعي وأحمد بن حنبل.
وقال إمام الحرمين في الرسالة النظامية اختلف مسالك العلماء في هذه الظواهر فرأى بعضهم تأويلها والتزم ذلك في آي الكتاب وما يصح من السنن وذهب أئمة السلف إلى الانكفاف عن التأويل وإجراء الظواهر على مواردها وتفويض معانيها إلى الله عز وجل والذي نرتضيه رأيا وندين الله تعالى به عقيدة اتباع سلف الأمة للدليل القاطع على أن إجماع الأمة حجة فلو كان تأويل هذه الظواهر حتما لأوشك أن يكون اهتمامهم به فوق اهتمامهم بفروع الشريعة وإذا انصرم عصر الصحابة والتابعين على الإضراب عن التأويل كان ذلك هو الوجه المتبع انتهى كلام الإمام وقد تقدم النقل في ذلك عن أهل العصر الثالث وهم فقهاء الأمصار كالثوري والأوزاعي ومالك والليث ومن عاصرهم وكذا من أخذ عنهم من الأئمة فكيف لا يوثق بما اتفق عليه أهل القرون الثلاثة وهم خير القرون بشهادة صاحب الشريعة عليه الصلاة والسلام انتهى كلام الحافظ على وجه الاختصار ونقل نصوص الأئمة في إجراء ذلك على الظاهر مع التنزيه من غير تأويل يفضي إلى مزيد بسط وتطويل وقد ألفت فيه كتب معتبرة مطولة ومختصرة وفي تنبيه العقول لشيخ مشايخنا إبراهيم الكوراني أن إجماع القرون الثلاثة على إجراء المتشابهات على مواردها مع التنزيه بليس كمثله شيء دليل على أن الشارع صلوات الله تعالى وسلامه عليه أراد بها ظواهرها والجزم بصدقه صلى الله عليه وسلم دليل على عدم المعارض العقلي الدال على نقيض ما دل عليه الدليل النقلي في نفس الأمر وإن توهمه العاقل في طور النظر والفكر فمعرفة الله تعالى بهذا النحو من الصفات طور وراء ذلك انتهى وأنا أقول في التأويل اتباع الظن وقول في الله عز وجل بغير علم وإلا لاتحد ما يذكرونه من المعنى فيه مع أن الأمر ليس كذلك حيث يذكرون في تأويل شيء واحد وجوها من الاحتمالات وفيما عليه السلف سلامة من ذلك ويكفي هذا في كونه أحسن المسالك:
وما علي إذا ما قلت معتقدي ** دع الجهول يظن الجهل عدوانا

وقرأ نافع {أأمنتم} بتحقيق الهمزة الأولى وتسهيل الثانية وأدخل أبو عمرو وقالون بينهما ألفا وقرأ قنبل بإبدال الأولى واوا لضم ما قبلها وهو راء {النشور} وعنه وعن ورش غير ذلك أيضا وقوله تعالى: {أن يخْسِف بِكُمُ الأرض} بدل اشتمال من من وجوز أن يكون على حذف الجار أي من أن يخسف ومحله حينئذٍ النصب أو الجر والباء للملابسة والأرض مفعول به لـ: {يخسف} والخسف قد يتعدى قال الراغب يقال خسفه الله تعالى وخسف هو قال تعالى: {فخسفْنا بِهِ وبِدارِهِ الأرض} [القصص:81] أي أأمنتم من أن يذهب الأرض إلى سفل ملتبسة بكم وزعم بعضهم لزوم لزومه وأن الأرض نصب بنزع الخافض أي أن يخسف بكم في الأرض وليس كذلك {فإِذا هِى} حين الخسف {تمُورُ} ترتج وتهتز اهتزازا شديدا وأصل المور التردد في المجيء والذهاب.
{أمْ أمِنتُمْ مّن في السماء أن يُرْسِل عليْكُمْ حاصبا} إضراب عن الوعيد بما تقدم إلى الوعيد بوجه آخر أي بل أأمنتم من في السماء أن يرسل إلخ وقد تقدم الكلام في الحاصب والوعيد بالخسف أولا لمناسبة ذكر الأرض في قوله تعالى هو الذي جعل لكم الأرض ذلولا وقد ذكر المنة في تسهيل المشي في مناكبها وذكر إرسال الحاصب ثانيا وهذا في مقابلة الامتنان بقوله تعالى: {وكُلُواْ مِن رّزْقِهِ} [الملك: 15] ألا ترى إلى قوله تعالى: {وفِى السماء رِزْقُكُمْ} [الذاريات: 22] قاله في (الكشف) وفي (غرة التنزيل) للراغب في وجه تقديم الوعيد بالخسف على التوعد بالحاصب أنه لما كانت الأرض التي مهدها سبحانه وتعالى لهم لاستقرارهم يعبدون فيها خالقها فعبدوا الأصنام التي هي شجرها أو حجرها خوفوا بما هو أقرب إليهم والتخويف بالحاصب من السماء التي هي مصاعد كلمهم الطيبة ومعارج أعمالهم الصالحة لأجل أنهم بدلوهما بسيئات كفرهم وقبائح أعمالهم ولعل ما أشير إليه أولا أولى {فستعْلمُون كيْف نذِيرِ} أي إنذاري فنذير مصدر مثله في قول حسان:
فانذر مثلها نصحا قريشا ** من الرحمن إن قبلت نذيري

وهو مضاف إلى ياء الضمير والقراء مختلفون فيها فمنهم من حذفها وصلا وأثبتها وقفا ومنهم من حذفها في الحالين اكتفاء بالكسرة والمعنى فستعلمون ما حال إنذاري وقدرتي على إيقاعه عند مشاهدتكم للمنذر به ولكن لا ينفعكم العلم حينئذ وقرئ شاذا {فسيعلمون} بالياء التحتانية.
{ولقدْ كذّب الذين مِن قبْلِهِمْ} أي من قبل كفار مكة من كفار الأمم السالفة قوم نوح وعاد وأضرابهم والالتفات إلى الغيبة لإبراز الاعراض عنهم {فكيْف كان نكِيرِ} أي إنكاري عليهم بإنزال العذاب أي كان على غاية الهول والفظاعة وهذا هو مورد التأكيد القسمي لا تكذيبهم فقط الكلام في نكير كالكلام في {نذير} [17] وفي الكلام من المبالغة في تسلية رسول الله صلى الله عليه وسلم وتشديد التهديد لقومه ما لا يخفى. اهـ.